مسيرة التعليم في مصر (3)

 

الخديوي توفيق (1879-1892م)

تولى توفيق الحكم وكانت مصر تعاني من التدخل الأجنبي الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وهو ما لم يجعل هناك سوى ملامح بسيطة لتطوير التعليم في عهده، إلا أنه كانت له جهود للارتقاء بالتعليم قبل توليه الحكم حيث افتتح مدرسة القبة عام 1875 ومدرسة التوفيقية عام1881، وبفضله طبق في التعليم المصري نظام الشهادات الدراسية المأخوذ من أوروبا والتي أصابت المصريين بهوس الحصول عليها لضمان وظيفة في الحكومة.

الاحتلال البريطاني 1882 حتى ثورة يوليو 1952:

في ظل الانحدار المستمر للتعليم الوطني ازدادت نسبة الطلبة المصريين ـــــ المنتمين للطبقات العليا ـــــ في المدارس الأوروبية التي تديرها القنصليات الأوروبية لتصل إلى 52% في عهد توفيق، وهي مدارس لا تدرس اللغة العربية ولا تخضع لرقابة ديوان المدارس، واستمر الأمر هكذا حتى جاء الاحتلال البريطاني لمصر 1882، وأحكم قبضته على التعليم فأصدر قرار بتحويل الكتاتيب من إشراف ديوان الأوقاف إلى ديوان المدارس 1889 حتى تكون تحت إشرافه، وفرض سياسته على المتبقي من التعليم الحكومي لخدمة أهدافه التي يمكن إجمالها فيما يلي:

  • صبغ التعليم الوطني بالصبغة الإنجليزية:

كانت اللغة الإيطالية هي أولى اللغات التي دُرست بالمدارس المصرية ــــ كما سبق وأوضحنا، فكان يستدعي المعلمون من إيطاليا وتترجم الكتب الإيطالية للعربية، وظل للغة الإيطالية نفوذ في مصر حتى أوائل القرن 19 أي حتى قدوم الحملة الفرنسية الى مصر، وعندما جاء الفرنسيون إلى مصر بدأوا عملية إحلال للنفوذ الفرنسي محل النفوذ الإيطالي، فألغى التدريس باللغة الإيطالية في المدارس وحلت الفرنسية محلها، خاصة في ظل التفاهم بين الفرنسيين وإسماعيل. وعندما احتل البريطانيون مصر لم يكن للإنجليز بها سوى مدرستين، فسعي إلى إزالة الثقافة الفرنسية بإنشاء 18 مدرسة إنجليزية بالقاهرة والاسكندرية والسويس وبورسعيد، وأغلقت سلطات الاحتلال كافة المدارس الفرنسية ليأتي عام 1910 بلا مدرسة فرنسية واحدة في مصر.كذلك قام البريطانيون بالتضييق على البعثات التعليمية لفرنسا وإغلاق مدرسة تخرج معلمين اللغة الفرنسية. كما لم يكتفوا بتدريس اللغة الإنجليزية بالمدارس بل قامت سلطات الاحتلال في 11 نوفمبر 1888 بتخصيص نصف المدة المقررة لتدريس كل مادة من المواد الدراسية لتكون باللغة الإنجليزية على أن يكون النصف الآخر باللغة العربية، إلى أن جاء سعد زغلول ناظراً للمعارف فأصدر قرارا في 1908 بعودة اللغة العربية لتدرس بها كافة المواد الدراسية.

وقد أوكل البريطانيون لمعلمين إنجليز مهمة تدريس العلوم المختلفة، وكان ذلك من أكثر المخاطر التي تعرض لها التعليم المصري، فقد مكن بذلك فئة قليلة من احتلال عقول وألسنة ملايين من الأطفال من خلال تغيير لغتهم وطريقة تفكيرهم، حتى تم تأسيس مدرسة المعلمين عام 1889 لتخريج معلمين يقومون بتدريس اللغة الإنجليزية للطلبة.

تولى خبراء إنجليز من أمثال مستر دنلوب ومستر لكي مسئولية وضع مناهج التعليم وكافة السياسات والإجراءات المتعلقة بالمدارس والمحتوى التعليمي، والحقيقة أنه لم يترك الإنجليز ثغرة في التعليم لم يتدخلوا بها، حتى ما يتعلق بالعطلات الرسمية، فمن الجدير بالذكر أنه منذ حكم محمد علي باشا كانت العطلة السنوية للدراسة شهر رمضان فقط وهو ما يتفق مع العادات والتقاليد الإسلامية في هذا الشهر الكريم، إلا أنه في 1886 استغلت سلطات الاحتلال قدوم شهر رمضان في فصل الصيف لتصدر قرار بإطالة الأجازة شهر قبله وشهر بعده حتى تسمح للمدرسين الإنجليز التي تعتمد عليهم في العملية التعليمية في مصر للسفر لبلادهموقضاء وقت مع أسرهم، وأصبحت هذه الأجازة الصيفية تقليداً متبعاً حتى اليوم.

وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات لم ينجح الاحتلال البريطاني في إزالة الثقافة الفرنسية من مصر كما نجح الفرنسيون من قبله مع الثقافة الإيطالية، حيث جاءت الإرساليات الفرنسية الكاثوليكية إلى مصر وأنشأت مدارس فرنسية رغم أنف الإحتلال البريطاني حتى وصل عدد المدارس الفرنسية في 1928 إلى 179 مدرسة. فقد كان لاشتراك الفرنسيين في صندوق الدين مع بريطانيا وتمتعهم بامتيازات أجنبية في مصر واتفاقهم مع إنجلترا في 1904 على تمتع المدارس الفرنسية في مصر بالحرية الكاملة عائق أمام محاولات طمس الثقافة والمدارس الفرنسية، فاللغة الفرنسية كانت معروفة بين الطبقات العليا وكانت لغة التدريس الرئيسية في المدارس الفرنسية واليهودية بينما اقتصرت الإنجليزية على المدارس الإنجليزية والأمريكية.

  • شرخ مجتمعي وتمايز طبقي:

سعت سلطات الاحتلال إلى ربط الطبقة العليا المثقفة في مصر بالثقافة الإنجليزية من خلال تقديم محتوى تعليمي لهم يركز على اللغة الإنجليزية ومعارف وتاريخ الأمم الأوروبية حتى يضمنوا وظائف لهم بالحكومة، بينما هناك تعليم شعبي للفقراء يقتصر على تعليم اللغة العربية ومبادئ الحساب والأصول الدينية بما يكفيهم للقيام بأعمال أجدادهم سواء كانوا تجار أو فلاحين أو صناع، ولا يجوز أن يتخطى نظام تعليمهم أغراضهم.

كانت هذه هي رؤيتهم التعليمية ومن أجل تحقيقها فرض الاحتلال مصروفات باهظة للتعليم حتى لا يقدر عليه سوى ميسوري الحال والقادرين ويحرم منه عامة الشعب، ليصبح التعليم وقفاً على أبناء طبقة الأثرياء وكان هذا الأمر مبالغ فيه لدرجة وصلت إلى نشوب أزمة وزارية بين سلطات الاحتلال وسعد زغلول عندما كان ناظراً للمعارف لأنه أعطى المجانية لأحد الطلبة النابغين مخالفاً بذلك سياسات الاحتلال. واستمرت السياسة التعليمية على هذا الوضع حتى أصر سعد زغلول على أن يفتح فرصة للطلبة النابغين للحصول على المجانية نظير تفوقهم الدراسي.

كانت سلطات الاحتلال حريصة على اتباع سياسة الفصل بين الطبقة الفقيرة والثرية بمصر، فكان تولي وظيفة حكومية حلم لأبناء الطبقات الفقيرة مما جعلهم يتحملون نفقات التعليم الابتدائي ـــــ لقصر مدته ــــــ حتى يضمنوا لأبنائهم تولي وظيفة حكومية، وهو ما جعل سلطات الاحتلال تجعل الحاصلين على الشهادة الثانوية هم وحدهم من لهم فرصة التوظيف حتى يصعب على أبناء الطبقات الدنيا الوصول لها.

وتجدر الإشارة هنا الى أن هذه كانت أول مرة يحدث فيها فصل صارم بين تعليم الأثرياء وتعليم الفقراء، فحتى وأن كان في العهود السابقة مدارس أجنبية ومدارس حكومية إلا أن التعليم الأجنبي كان مخصص بشكل أكبر للجاليات الأجنبية بينما فتحت المدارس الحكومية أبوابها لفئات الشعب المختلفة

وحين انطلقت الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل بدأت بالاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس، حيث رأت أن محو الأمية وتثقيف الشعب هو أفضل وسيلة لمحاربة الاستعمار، وبمساهمات من الجمعيات الخيرية والمساعدات الأهلية والشخصيات المهمة أنشئت العديد من المدارس، وكانت هذه المدارس بمصروفات حيث أنها مدارس حرة لا تخضع لإشراف سلطات الاحتلال فكانت بحاجة لتحصيل مصروفات لدفع الرواتب مع تخصيص جزء للطلبة بالمجان، ومع الوقت ازدادت المدارس الخاصة بشكل كبير خاصة بعد ما ساهمت في إنشائها الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية من أجل نشر المعارف.

تمكنت الحركة الوطنية من تحقيق أهدافها إلى حد ما ومحاولة تمصير التعليم من خلال إصدار قرار في 1938 بإلغاء التدريس باللغة الأجنبية في السنة الدراسية الأولى والثانية بموجب قرارات صدرت في 1938 و1945، ودمج كافة الأنماط التعليمية ــــــ مدارس إبتدائية بمصروفات مقصورة على الطبقة الميسورة ومدارس أهلية أنشأتها الأهالي والجمعيات الخيرية وتعليم شعبي متمثل في الكتاتيب ـــــــ في نظام تعليمي واحد أطلق عليه التعليم الإبتدائي وأصدر قرار بمجانية التعليم الألزامي والثانوي في ظل تولي طه حسين وزارة المعارف 1950.