مسيرة التعليم في مصر (5)

 

دوافع ظهور المدارس الدولية في مصر:

عرضنا في الجزء السابق التطور التاريخي للنظام التعليمي في مصر منذ عهد الكتاتيب حتى نشأة المدارس الدولية. ونحاول الآن التعرف على دوافع ظهور المدارس الدولية في مصر:

  • هيمنة اللغة الإنجليزية عالمياًعظمت العولمة ومتطلبات التوظيف من أهمية اللغة الإنجليزية في جميع بلدان العالم، فاللغة الإنجليزية مسيطرة على شبكة المعلومات، حيث تبلغ حصة المواد المخزنة باللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت 80% من حجم المواد المخزنة باللغات الأخرى، وهو ما جعل اللغة الإنجليزية هي لغة الوسائط الأكاديمية ووسائل الإعلام العالمية، مما دفع أولياء أمور التلاميذ إلى السعي لإكساب أطفالهم هذه اللغة المحورية في السوق العالمي.
  • تدني مستوى التعليم الحكومي ومخرجاته: في الوقت الذي عانى فيه التعليم الحكومي من قصور شديد في تطوير المنشآت التعليمية وضعف قدرات المعلمين التربوية والتعليمية وتدني مستوى المناهج الدراسية، كانت المدارس الدولية تتميز بكفاءة المعلمين ومرونة الإدارة التعليمية والتطوير التكنولوجي المستمر واتباع أساليب تربوية حديثة ومراعاة الاحتياجات التعليمية والتربوية والترفيهية للتلاميذ.
  • سيطرة ثقافة اقتصاد السوق الحرأصبح التعليم في مصر يحكمه ثقافة اقتصاد السوق الحر، مما جعل من أولى متطلبات سوق العمل إجادة اللغة الإنجليزية في ظل انتشار البنوك والفنادق والشركات الأجنبية التي تتطلب عمالة تتقن اللغة الانجليزية، ذلك بخلاف ما تقدمه المدارس الدولية من شهادة دولية معتمدة تمكن الطالب من العمل وإكمال الدراسة بالخارج، وهو ما دفع الطبقات الوسطى إلى الحرص على تسليح أبنائهم باللغات الأجنبية أملاً في مستقبل أفضل.

ولم يتوقف حدود تأثير المدارس الدولية على طلابها بل كانت لها تجليات على المجتمع المصري، واستطاعت أن تؤثر على مظاهر حياتنا اليومية ورؤيتنا لأنفسنا وللآخرين:

  • غرس العادات والتقاليد الغربية:

تعتمد المدارس الدولية في الترويج لنفسها على اتباع التقاليد الغربية الإيجابي منها والسلبي، وهو ما ينعكس على سلوك خريجيها خارج المدرسة:

  • الأنشطة والحفلات المدرسية: اعتادت المدارس الدولية أن تحتفل بأعياد البلاد التي تتبعها هذه المدارس، بكل ما تتضمنه هذه الاحتفالات من تقاليد وأعراف بعيدة عن مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، مما يجعل الطالب في هذه المدرسة يتكون وجدانيا بصورة مفارقة تماما لوجدان الطالب في المدارس الأخرى. ومن أمثلة الأعياد التي تحرص هذه المدارس الاحتفال بها عيد الهلع (أو الهالويين)

كذلك الحرص على إقامة احتفالات التخرج التي تتضمن استعراضات أجنبية وطرق ترفيه لا تتفق مع الثقافة الإسلامية والعربية ولا يليق بالحدث العلمي.

  • الترويج للمبادئ والتقاليد الغربية: من أجل أن تعظم التقاليد الغربية عليها أن تبدأ بالتحقير والتقليل من القيم والمعاني الإسلامية والعربية من خلال مواد النقاش والتفكير النقدي (Debate and Critical Thinking)، فهي تعتمد على مناقشة الأفكار الجدالية لتنمية عقل الطالب وتطوير قدراته على التفكير النقدي.

ناهيك عن الأفكار التي تطرح في دروس اللغة الإنجليزية تحت إدعاء أنه مجرد نص أجنبي لتنمية اللغة ولا يتضمن أفكارا محددة ولكنه يحمل من المعاني ما يصطدم مع الإطار الأخلاقي والقيمي السائد في البلاد، فعلى سبيل المثال نجد في أحد دروس اللغة الإنجليزية بعنوان ما هي الأسرة؟ تقسيما للأسرة إلى خمس أنواع: النوع الأول أب وأم وأطفال، والنوع الثاني أب وأطفال، والنوع الثالث أم وأطفال، والنوع الرابع أم وأم وأطفال، والنوع الخامس أب وأب وأطفال، ليتكون لدى عقلية الطفل منذ الصغر أن هذا أمر طبيعي يمكن تقبله.

  • طمس اللغة العربية:

لا يمكن أن ننكر ما تتعرض له اللغة العربية من حرب شرسة ومحاولات مستمرة لطمسها على كافة المستويات، فمن منا لا ينبهر بطفل في السابعة من عمره قادر على التحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة على حساب لغته الأم (العربية)، ومن منا لا يرى العديد من النصوص العربية المكتوبة على صفحات التواصل الإجتماعي بحروف لاتينية (موضة الفرانكو)، ولم يعد محل استغراب أن تحضر إحدى الفاعليات الثقافية أو الفنية أو غيرها لتجد المتحدث عربي والمستمع عربي ولغة التواصل هي الإنجليزية، وهذه الإعلانات التي تطل علينا في كل مكان والمكتوبة باللغة الإنجليزية كأن من لا يتقن هذه اللغة غير مخاطب بهذه الإعلانات رغم أنها في بلده العربية، أضف إلى ذلك معرفتنا عن غير قصد لبعض المصطلحات باللغة الإنجليزية دون نظيرتها العربية، وغيرها من الأمثلة التي تشهد بتراجع استخدام اللغة العربية في حياتنا اليومية.

فأصبح التحدث باللغة الإنجليزية يضيف لنا وجاهة اجتماعية، على اعتبار أن متحدثي اللغة الإنجليزية من الطبقات العليا المحتكين بالثقافة الغربية، وتمكنت المدارس الدولية من غرس هذه الثقافة وتعميقها في نفوس الشباب، فلم يتوقف فيروس تعلم اللغة الإنجليزية عند خريجي التعليم الدولي فقط، بل امتد في ظل متطلبات سوق العمل إلى الطبقات الوسطى التي تنفق الكثير حتى يجيد أبناؤها اللغة الإنجليزية، فانتشرت مراكز تعليم اللغة الإنجليزية بكثافة في مصر.

  • التمايز الطبقي وشرخ التماسك المجتمعي:

استطاعت المدارس الدولية أن تؤصل للتمايز الطبقي وتخلق تشوهات اجتماعية من ناحيتين:

  • أصبحنا أمام فئتين متنافرتين في المحتوى التعليمي الذي تلقوه وفي الثقافة التي احتكوا بها داخل وطن واحد، وهو ما انعكس بالطبع على فكر وسلوك كل فئة، مما أدى الى انعزال كل منهم على نفسه مهتما بشئونه الخاصة ومصلحته المباشرة.
  • التفاوت بين خريجي المدارس الدولية والمدارس الأخرى لم يتوقف على المظهر الاجتماعي والمادي والتعليمي، بل امتد إلى التفاوت في نظرة المجتمع للطرفين، حيث أعطت المدارس الدولية وجاهة غير مبررة لخريجيها وأولوية في تولي الوظائف على حساب معايير الكفاءة ــــــ في أغلب الأحيان ـــــ كما أن خريجيها أصبحوا محل تفضيل وجاذبية من الطبقة الوسطى فيقومون بتقليدهم ومحاكاتهم في الملبس وطريقة التحدث وغيرها حتى يكونوا محل استحسان ويكتسبوا مكانة مرموقة في المجتمع.
  • الاغتراب عن المجتمع:

تنوع النظم التعليمية ما بين محلي ودولي أدى إلى ضعف تماسك أفراد المجتمع الواحد وتفكك النسيج المجتمعي كما سبق ووضحنا، بالإضافة لشعور الأجيال المنتمية للمدارس الدولية بالغربة داخل مجتمعهم، فهم غير قادرين على الإنتماء للحضارة الغربية التي يشربوها في نظامهم التعليمي وفي الوقت نفسه غير قادرين على الإندماج داخل المجتمع الذي عاشوا فيه واستيعاب ثقافته العربية والإسلامية مما يخلق لديهم شعور قوي بالاغتراب.

وتأصل الشعور بالاغتراب لدى خريجي المدارس الدولية، ويرجع ذلك إلى غياب تدريس المواد القومية داخل المدارس الدولية فحتى ولو قاموا بتدريسها فهى ليس لها الأولوية، فغياب المواد القومية من لغة وتاريخ ودين وجغرافيا وتربية وطنية يؤثر على تشكيل الشخصية المصرية.

وينبثق عما سبق أبعاد مختلفة:

  • نصبح أمام جيل غير قادر على التواصل الفكري مع أفراد المجتمع الذي يعيشوا فيه، وهذا لا يؤثر على الفرد فقط بل يمتد تأثيره للمجتمع حيث يتحول المجتمع إلى جزر منعزلة.
  • الرغبة المستمرة لخريجي المدارس الدولية في السفر للخارج لتزداد علاقته بمجتمعه الأصيل ويندمج مع المجتمع الغربي بإطار واسع من الصداقات والعلاقات الاجتماعية.
  • السخط على أوضاع المجتمع الأم، فهم ليسوا نواة لتحديث مجتمعهم ولكن ذهبوا لتوبيخه والحط من قدره، فهم ينظروا للمجتمع من أعلى ولديهم انفصال عن مجتمعهم وثقافته.

ختاماً، استطاعت المدارس الدولية أن تفرض المعايير التي تحكم جودة التعليم لدرجة جعلت الحكومة تدخل في شراكات مع دول أجنبية من أجل إنشاء المزيد من المدارس ــــــ المدارس اليابانية ــــــــ وإيماناً منها بأن ذلك سوف يحسن العملية التعليمية ويدفعها للأمام، فلابد أن لا ننصاع إليها بل نحجم تمددها وتغلغلها في المجتمع المصري بمجموعة من السياسات حتى لا تتجاوز الخصوصية الثقافية والحضارية للدولة الحاضنة لها، وتفادي النظرة الدونية للغة والثقافة العربية.

وفي الوقت نفسه لا يمكننا ــــــ على الرغم مما وضحناه من مساوئ وخروقات وتأثيرات سلبية للمدارس الدولية ــــــ أن ننكر جودة خريجي المدارس الدولية مقارنة بخريجي المدارس الأخرى حتى لا نطلق أحكام في الهواء ليس لها أساس من الصحة ومبالغ فيها، ولكن لا ينفي ذلك أهمية دور الأسرة والتربية في تحسين سلوكيات الناشئة من خلال الاهتمام بالدروس الدينية وأن لا يكون هناك تساهل في الاستجابة لكل ما تقدمه هذه المدارس من أنشطة وسلوكيات منافية لعاداتنا وتقاليدنا.

تحاول الدولة جاهدة في الوقت الحالي تطوير التعليم الحكومي، فيسعى الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم إلى رفع مستوى المحتوى التعليمي من خلال تعديل المناهج وأنظمة الامتحانات واقامة عدد لا بأس به من الدورات التدريبية للمدرسين لتطوير الأداء.